شهد المجتمع المصري خلال العقود الماضية انتشارًا واسعًا لظاهرة “المستريحين الجدد”، الذين يمارسون النصب على المواطنين بحيلٍ استثمارية زائفة، مستغلين الشعارات الدينية ومخاوف البعض من التعامل مع البنوك، باعتبارها “ربوية”، هذه الظاهرة ليست جديدة، بل هي امتداد لشركات “توظيف الأموال” التي ظهرت في الثمانينات، وارتبطت بتوظيف الدين في الاقتصاد لخلق ما يُعرف بـ”الرأسمالية الإسلامية” وتحت شعار “الاستثمار الحلال”.
مع تبني سياسة الانفتاح الاقتصادي في السبعينات والثمانينات، برزت شركات “توظيف الأموال”، مدعومة بفتاوى سلفية وإخوانية تُحرّم التعامل مع البنوك، معتبرة إياها مؤسسات ربوية، تلك الفتاوى دفعت شرائح واسعة من المصريين إلى ضخ مدخراتهم في شركات الاستثمار البديلة، بحثًا عن أرباح سريعة “وفق الشريعة”، وبفضل الغطاء الديني، اكتسبت هذه الشركات ثقة المودعين، ما مكّنها من جمع مليارات الجنيهات. لكن سرعان ما انهارت، بعدما تبين أن كثيرًا منها لم يكن سوى عمليات احتيال ممنهجة، انتهت بضياع أموال المودعين، أو تحويلها إلى الخارج كما حدث مع “الريان” و”السعد” وغيرهما.
نفس الحيلة بأدوات معاصرة، يتكرر المشهد مع “المستريحين الجدد“، الذين يوهمون الناس بأرباح تصل إلى 40%، تحت ستار التجارة الحلال والاستثمار الآمن. يلعب سماسرة المال دورًا أساسيًا في هذه المنظومة، مستخدمين وسائل حديثة، كوسائل التواصل الاجتماعي، لجذب الضحايا، وإقناعهم بأن استثمارهم “شرعي” مقارنة بالتعامل مع البنوك، بل إن بعض الدعاة السلفيين لا يزالون يروجون لهذه الأفكار، ومن بينهم الشيخ ياسر برهامي، الذي يُصر على تحريم التعامل مع البنوك رغم مخالفة ذلك لفتاوى المؤسسات الدينية الرسمية، مثل دار الإفتاء المصرية، ومن الأمثلة الصارخة، قضية “ريان الإسكندرية” محمد صابر، صاحب قناة “أمجاد الإسلامية”، الذي جمع نحو 3 مليارات جنيه من المواطنين، قبل أن يهرب خارج مصر عام 2019، تاركًا خلفه آلاف الضحايا.
في الأيام الأخيرة ومع انتشار منصات التداول والعملات المشفرة والتجارة الإلكترونية ، لم يعد الاحتيال المالي مقتصرًا على شركات توظيف الأموال التقليدية، بل انتقل بقوة إلى الفضاء الإلكتروني، حيث استغل المحتالون التكنولوجيا لإقناع الضحايا بفرص استثمار رقمية زائفة، ومكتسب سريعة وسهلة، تشير التقارير إلى أن المصريين تعرضوا لعمليات نصب إلكترونية واسعة، بلغت قيمتها نحو 6 مليارات جنيه مصري، عبر منصات احتيالية تدّعي الاستثمار في العملات الرقمية، والتداول عبر الإنترنت، والمشروعات الوهمية، تعتمد هذه المنصات على أساليب تسويقية ذكية، تستغل رغبة المواطنين في تحقيق أرباح سريعة، فتُغريهم بأرباح خيالية، ثم تستولي على أموالهم قبل أن تختفي دون أثر.
لعبت جماعة الإخوان الإرهابية دورًا محوريًا في تأسيس هذا النمط من الاقتصاد الموازي، ليس فقط عبر شركات توظيف الأموال، بل أيضًا من خلال استراتيجيات مثل “الشجرة المالية”، التي تعتمد على إنشاء شركات تجارية توظف أموال الطبقة المتوسطة، مستغلةً رغبة الشباب في الربح السريع، ومن أبرز الأمثلة على ذلك، شركة “ماي واي”، التي تأسست عام 2001، وحققت انتشارًا واسعًا بين الشباب بنظام التسويق الشبكي، حتى تم التحفظ عليها في 2020 ضمن حملة تجفيف منابع تمويل الإخوان، لطالما حذر المفكرون المصريون من هذه الظاهرة، وعلى رأسهم الكاتب الراحل فرج فودة، الذي تناولها في كتابه “الملعوب”. كما ربط الدكتور نصر حامد أبو زيد بين هذه الشركات والخطاب الديني المتشدد، مؤكدًا أن الفتاوى المغلوطة عن فوائد البنوك ساهمت في انتشار الظاهرة.
حتى الجهات الرسمية، ممثلة في القضاء المصري، وصفت شركات توظيف الأموال بـ”عملية النصب الكبرى”، كما قال المستشار جابر ريحان، مؤكدًا أن أرباح هذه الشركات لم تتجاوز 2%، ومع ذلك كانت تدفع أرباحًا تصل إلى 24%، ما يثبت أنها كانت مجرد مخططات احتيالية.
نهاية الحلم الزائف، والثراء المريح، انتهت تجربة “الريان” في 1989 بفضيحة مدوية، حيث تبين أن أموال المصريين تم تهريبها إلى الخارج، ولم يتمكن الآلاف من استعادة مدخراتهم. واليوم، يُعيد “المستريحون الجدد” القصة نفسها، مُستغلين سذاجة البعض، ورغبتهم في الثراء السريع عبر قنوات استثمار غير رسمية، لكن الدولة المصرية تحاول التصدي لهذه الظاهرة، بتأكيدها على أن التعامل مع البنوك حلال، كما أوضحت دار الإفتاء والأزهر الشريف، اللذان شددا على أن البنوك تعمل وفق عقود تمويل مستحدثة، لا علاقة لها بالربا، يُثبت التاريخ أن المال لا يدار بالشعارات الدينية، بل بالاقتصاد القائم على قواعد واضحة ورقابة مؤسسية. وكلما انخدع الناس بوهم “الاستثمار الحلال بعيدًا عن البنوك”، وقعوا ضحية عمليات احتيال جديدة، تكرر مآسي الماضي باسم الدين.
الأمر لم يكن يومًا خلافًا فقهيًا، بل لعبة احتيالية تُجدد نفسها مع كل جيل، مستغلة العاطفة الدينية لدى البسطاء، لتحويل مدخراتهم إلى مكاسب لأصحاب المشاريع الوهمية.. ثم يختفون!